الطريق الربانى لطالب العلم الروحانى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 افضليىة بعض القرأن ج12

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



عدد المساهمات : 129
تاريخ التسجيل : 20/03/2015

افضليىة بعض القرأن ج12 Empty
مُساهمةموضوع: افضليىة بعض القرأن ج12   افضليىة بعض القرأن ج12 Emptyالأحد مارس 29, 2015 7:48 pm

وقال : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين } وقال : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } .
قال المفسرون وأهل اللغة : السدى المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى ; كالذي يترك الإبل سدى مهملة وقال تعالى : { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون } وقال تعالى : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل } { إن ربك هو الخلاق العليم } .
وقد بين سبحانه الفرق بين ما أمر به وما نهى عنه وبين من يحمده ويكرمه من أوليائه ومن يذمه ويعاقبه من أعدائه وأنهم مختلفون لا يجوز التسوية بينهما .
وجعل خلاف ذلك من المنكر الذي لا مساغ له .
فقال تعالى { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } { ما لكم كيف تحكمون } وقال : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } فبين أن هذا الحكم سيئ في نفسه ليس الحكم به مساويا للحكم بالتفاضل .
ثم قال : { وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون } فأخبر أنه خلق الخلق ليجزي كل نفس بما كسبت وأنه لا يظلم أحدا فينقص من حسناته شيئا بل كما قال : { ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } .
وقد نزه نفسه في غير موضع من القرآن أن يظلم أحدا من خلقه فلا يؤتيه أجره أو يحمل عليه ذنب غيره فقال تعالى : { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما } وقال تعالى : { لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد } { ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد } وقال تعالى : { ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد } { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب } وفي الحديث الصحيح الإلهي { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } .
وما تزعمه القدرية من أن تفضيل بعض عباده على بعض بفضله وإحسانه من باب الظلم جهل منهم وكذلك جزاؤهم بأعمالهم التي جرى بها القدر ليس بظلم فإن الواحد من الناس إذا عاقبه غيره بسيئاته وانتصف للمظلوم من الظالم لم يكن ذلك ظلما منه باتفاق العقلاء بل ذلك أمر محمود منه ولا يقول أحد إن الظالم معذور لأجل القدر .
فرب العالمين إذا أنصف بعض عباده من بعض وأخذ للمظلومين حقهم من الظالمين كيف يكون ذلك ظلما منه لأجل القدر وكذلك الواحد من العباد إذا وضع كل شيء موضعه فجعل الطيب مع الطيب في المكان المناسب له وجعل الخبيث مع الخبيث في المكان المناسب له كان ذلك عدلا منه وحكمة فرب العالمين إذا وضع كل شيء موضعه ولم يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ولم يجعل المتقين كالفجار ولا المسلمين كالمجرمين .
والجنة طيبة لا يصلح أن يدخلها إلا طيب ولهذا لا يدخلها أحد إلا بعد القصاص الذي ينظفهم من الخبث كما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن المؤمنين إذا عبروا الجسر - وهو الصراط المنصوب على متن جهنم - فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة } وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .
والمقصود : هنا أن ما يقوله القدرية من الظلم والعدل الذي يقيسون به الرب على عباده من بدعهم التي ضلوا بها وخالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وكذلك من قابلهم فنفى حكمة الرب الثابتة في خلقه وأمره وما كتبه على نفسه من الرحمة وما حرمه على نفسه من الظلم وما جعله للمخلوقات والمشروعات من الأسباب التي شهد بها النص مع العقل والحس واتفق عليها سلف الأمة وأئمة الدين كقوله تعالى : { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } وقوله تعالى : { فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } ونحو ذلك فإن هذه الأقاويل أصلها مأخوذ من الجهم بن صفوان إمام غلاة المجبرة وكان ينكر رحمة الرب ويخرج إلى الجذمى فيقول : أرحم الراحمين يفعل مثل هذا يريد بذلك أنه ما ثم إلا إرادة رجح بها أحد المتماثلين بلا مرجح لا لحكمة ولا رحمة .
ولهذا كان الذين وافقوه على قوله من المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة يتناقضون لأنهم إذا خاضوا في الشرع احتاجوا أن يسلكوا مسالك أئمة الدين في إثبات محاسن الشريعة وما فيها من الأمر بمصالح العباد وما ينفعهم من النهي عن مفاسدهم وما يضرهم وأن الرسول الذي بعث بها بعث رحمة كما قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } وقد وصفه الله تعالى بقوله : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فأخبر أنه يأمر بما هو معروف وينهى عما هو منكر ويحل ما هو طيب ويحرم ما هو خبيث .
ولو كان المعروف لا معنى له إلا المأمور به والمنكر لا معنى له إلا ما حرم لكان هذا كقول القائل : يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ويحل لهم ما أحل لهم ويحرم عليهم ما حرم عليهم .
وهذا كلام لا فائدة فيه فضلا عن أن يكون فيه تفضيل له على غيره .
ومعلوم أن كل من أمر بأمر يوصف بذلك وكل نبي بعث فهذه حاله .
وقد قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } فعلم أن الطيب وصف للعين وأن الله قد يحرمها مع ذلك عقوبة للعباد كما قال تعالى لما ذكر ما حرمه على بني إسرائيل : { ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } وقال تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } فلو كان معنى الطيب هو ما أحل كان الكلام لا فائدة فيه .
فعلم أن الطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان .
وليس المراد به مجرد التذاذ الأكل فإن الإنسان قد يلتذ بما يضره من السموم وما يحميه الطبيب منه ولا المراد به التذاذ طائفة من الأمم كالعرب ولا كون العرب تعودته ; فإن مجرد كون أمة من الأمم تعودت أكله وطاب لها أو كرهته لكونه ليس في بلادها لا يوجب أن يحرم الله على جميع المؤمنين ما لم تعتده طباع هؤلاء ولا أن يحل لجميع المؤمنين ما تعودوه .
كيف وقد كانت العرب قد اعتادت أكل الدم والميتة وغير ذلك وقد حرمه الله تعالى .
وقد قيل لبعض العرب : ما تأكلون ؟ قال : ما دب ودرج إلا أم حبين .
فقال : ليهن أم حبين العافية .
ونفس قريش كانوا يأكلون خبائث حرمها الله وكانوا يعافون مطاعم لم يحرمها الله .
وفي الصحيحين { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم له لحم ضب فرفع يده ولم يأكل فقيل : أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه } .
فعلم أن كراهة قريش وغيرها لطعام من الأطعمة لا يكون موجبا لتحريمه على المؤمنين من سائر العرب والعجم .
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحرم أحد منهم ما كرهته العرب ولم يبح كل ما أكلته العرب .
وقوله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } إخبار عنه أنه سيفعل ذلك فأحل النبي صلى الله عليه وسلم الطيبات وحرم الخبائث مثل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير فإنها عادية باغية فإذا أكلها الناس - والغاذي شبيه بالمغتذي - صار في أخلاقهم شوب من أخلاق هذه البهائم وهو البغي والعدوان كما حرم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية وزيادته توجب طغيان هذه القوى وهو مجرى الشيطان من البدن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم } .
ولهذا كان شهر رمضان إذا دخل صفدت الشياطين لأن الصوم جنة .
فالطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق والخبائث هي الضارة للعقول والأخلاق كما أن الخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأخلاق فأباح الله للمتقين الطيبات التي يستعينون بها على عبادة ربهم التي خلقوا لها وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم في المقصود الذي خلقوا له وأمرهم مع أكلها بالشكر ونهاهم عن تحريمها فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحق العقوبة .
ومن حرمها - كالرهبان - فقد تعدى حدود الله فاستحق العقوبة قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها } وفي حديث آخر : { الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر } وقال تعالى : { لتسألن يومئذ عن النعيم } أي عن شكره فإنه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه وعما حرمه عليه : هل فرط بترك مأمور أو فعل محظور كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } فنهاهم عن تحريم الطيبات .
كما كان طائفة من الصحابة قد عزموا على الترهب فأنزل الله هذه الآية .
وفي الصحيحين { أن رجالا من الصحابة قال أحدهم : أما أنا فأصوم لا أفطر وقال آخر : أما أنا فأقوم لا أنام وقال آخر : أما أنا فلا أقرب النساء وقال آخر : أما أنا فلا آكل اللحم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا .
.
لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء ; وآكل اللحم .
فمن رغب عن سنتي فليس مني } ولبسط هذه الأمور موضع آخر .
والمقصود هنا : أن الله بين في كتابه وعلى لسان رسوله حكمته في خلقه وأمره كقوله : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } فعلل التحريم بأنها فاحشة بدون النهي وأن ذلك علة للنهي عنها وقوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } فذكر براءته من هذا على وجه المدح له بذلك وتنزيهه عن ذلك فدل على أن من الأمور ما لا يجوز أن يضاف إلى الله الأمر به ليست الأشياء كلها مستوية في أنفسها ولا عنده وأنه لا يخصص المأمور على المحظور لمجرد التحكم بل يخصص المأمور بالأمر والمحظور بالحظر لما اقتضته حكمته .
وقد تدبرت عامة ما رأيته من كلام السلف - مع كثرة البحث عنه وكثرة ما رأيته من ذلك - هل كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أو أحد منهم على ما ذكرته من هذه الأقوال التي وجدتها في كتب أهل الكلام : من الجهمية والقدرية ومن تلقى ذلك عنهم : مثل دعوى الجهمية أن الأمور المتماثلة يأمر الله بأحدها وينهى عن الآخر لا لسبب ولا لحكمة أو أن الأقوال المتماثلة والأعمال المتماثلة من كل وجه يجعل الله ثواب بعضها أكثر من الآخر بلا سبب ولا حكمة ونحو ذلك مما يقولونه : كقولهم إن كلام الله كله متماثل وإن كان الأجر في بعضه أعظم فما وجدت في كلام السلف ما يوافق ذلك بل يصرحون بالحكم والأسباب وبيان ما في المأمور به من الصفات الحسنة المناسبة للأمر به وما في المنهي عنه من الصفات السيئة المناسبة للنهي عنه ومن تفضيل بعض الأقوال والأعمال في نفسها على بعض ولم أر عن أحد منهم قط أنه خالف النصوص الدالة على ذلك ولا استشكل ذلك ولا تأوله على مفهومه مع أنه يوجد عنهم في كثير من الآيات والأحاديث استشكال واشتباه وتفسيرها على أقوال مختلفة قد يكون بعضها خطأ .
والصواب هو القول الآخر وما وجدتهم في مثل قوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي { أي آية في كتاب الله أعظم } وقوله في الفاتحة { لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها } ونحو ذلك إلا مقرين لذلك قائلين بموجبه .
{ والنبي صلى الله عليه وسلم سأل أبيا أي آية في كتاب الله أعظم ؟ } فأجابه أبي بأنها آية الكرسي فضرب بيده في صدره وقال { ليهنك العلم أبا المنذر } .
ولم يستشكل أبي ولا غيره السؤال عن كون بعض القرآن أعظم من بعض بل شهد النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم لمن عرف فضل بعضه على بعض وعرف أفضل الآيات وكذلك قوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } .
وما رأيتهم تنازعوا في تفسير ( { بخير منها } .
فإن هذه الآية فيها قراءتان مشهورتان : قراءة الأكثرين ( { أو ننسها } من أنساه ينسيه وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( أو ننسأها بالهمز من نسأه ينسأه .
فالأول من النسيان والثاني من نسأ إذا أخر .
قال أهل اللغة : نسأته نسئا إذا أخرته .
وكذلك أنسأته يقال نسأته البيع وأنسأته .
قال الأصمعي : أنسأ الله في أجله ونسأ في أجله بمعنى .
ومن هذه المادة بيع النسيئة .
ومن كلام العرب : من أراد النساء ولا نساء فليبكر الغداء وليخفف الرداء وليقلل من غشيان النساء .
فأما القراءة الأولى فمعناها ظاهر عند أكثر المفسرين قالوا : المراد به ما أنساه الله من القرآن كما جاءت الآثار بذلك فإن ما يرفع من القرآن إما أن يكون رفعا شرعيا بإزالته من القلوب وهو الإنساء فأخبر تعالى أن ما ينسخه أو ينسيه فإنه يأتي بخير منه أو مثله بين ذلك فضله ورحمته لعباده المؤمنين فإنه قال قبل ذلك : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم } { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } فنهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في سوء أدبهم على الرسول وعلى ما جاء به وأخبر أنهم لحسدهم ما يودون أن الله ينزل عليه شيئا من الكتاب والحكمة ثم أخبر بنعمته على المؤمنين فإنه قد كان بعض القرآن ينسخ وبعضه ينسى - كما جاءت الآثار بذلك - وما أنساه سبحانه هو مما نسخ حكمه وتلاوته بخلاف المنسوخ الذي يتلى وقد نسخ ما نسخ من حكمه أو نسخ تلاوته ولم ينس وفي النسخ والإنساء نقص ما أنزله على عباده .
فبين سبحانه أنه لا نقص في ذلك بل كل ما نسخ أو ينسى فإن الله يأتي بخير منه أو مثله فلا يزال المؤمنون في نعمة من الله لا تنقص بل تزيد فإنه إذا أتى بخير منها زادت النعمة وإن أتى بمثلها كانت النعمة باقية وقال تعالى : { أو ننسها } فأضاف الإنساء إليه فإن هذا الإنساء ليس مذموما بخلاف نسيان ما يجب حفظه فإنه مذموم فإن هذا إنساء لما رفعه الله وأما نسيان ما أمر بحفظه فمذموم قال تعالى : { كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } وهذا النسيان وإن كان متضمنا لترك العمل بها مع حفظها فإذا نسيت الآيات بالكلية حتى لا يعرف ما فيها كان ذلك أبلغ في ترك العمل بها فكان هذا مذموما .
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن { من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم } ولهذا كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يضيف الإنسان النسيان إلى نفسه فقال في الحديث المتفق عليه { بئس ما لأحدهم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت بل هو أنسى .
استذكروا القرآن فلهو أشد تفلتا من صدور الرجال من النعم من عقلها } ثم منهم من جعل { ما ننسخ من آية } هو ما ترك تلاوته ورسمه ونسخ حكمه وما أنسى هو ما رفع فلا يتلى .
ومنهم من أدخل في الأول ما نسخت تلاوته وإن كان محفوظا .
فالأول قول مجاهد وأصحاب عبد الله بن مسعود وروى الناس بالأسانيد الثابتة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله : { ما ننسخ من آية } قال : نثبت خطها ونبدل حكمها قال : وهو قول عبد الله بن مسعود { أو ننسها } أي نمحوها فإن ما نسي لم يترك .
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن عكرمة { عن ابن عباس قال : كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار فأنزل الله : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } } .
وكذلك روي عن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن كعب وقتادة وعكرمة .
وكان سعد بن أبي وقاص يقرؤها أو تنسها بالخطاب أي تنسها أنت يا محمد وتلا قوله : سنقرئك فلا تنسى وقوله : { واذكر ربك إذا نسيت } وقد جاءت الآثار بأن أحدهم { كان يحفظ قرآنا ثم ينساه ويذكرون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول : إنه رفع } مثل ما صح من حديث الزهري : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب { أن رجلا كان معه سورة فقام يقرؤها من الليل فلم يقدر عليها وقام آخر يقرؤها فلم يقدر عليها وقام آخر يقرؤها فلم يقدر عليها فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : ذهبت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها وقال الآخر : ما جئت إلا لذلك وقال الآخر : ما جئت إلا لذلك وقال الآخر : وأنا يا رسول الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها نسخت البارحة } وقوله : أو ننسؤها النسء بمعنى التأخير وفيه قولان السلف : القول الأول يروى عن طائفة قال السدي : { ما ننسخ من آية } قال : نسخها قبضها أو ننسؤها فنتركها لا ننسخها { نأت بخير } من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه .
وكذلك في تفسير الوالبي عن ابن عباس : { ما ننسخ من آية أو ننسها } يقول ما نبدل من آية أو نتركها فلا نرفعها من عندكم { نأت بخير منها أو مثلها } روي ذلك عن الربيع بن أنس .
ومن الناس من فسر بهذا المعنى القراءة الأولى فقالوا : معنى ننسها نتركها عندكم فإن النسيان هو الترك .
وقال الأزهري ننسها نأمر بتركها .
يقال أنسيت الشيء وأنشد : إني على عقبة أقضيها لست بناسيها ولا منسيها أي ولا آمر بتركها .
والقول الثالث نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها .
والصواب القول الأوسط .
روى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس قال : خطبنا عمر رضي الله عنه فقال : يقول الله { ما ننسخ من آية أو ننسها } أي نؤخرها .
وبإسناده المعروف عن أبي العالية { ما ننسخ من آية } فلا يعمل بها { أو ننسها } أي نرجئها عندنا وفي لفظ عن أبي العالية : نؤخرها عندنا .
وعن عطاء : نؤخرها .
وقد ذكر قول ثالث عن السلف وهو قول رابع أن المعنى : { ما ننسخ من آية } وهو ما أنزلناه إليكم ولا نرفعه { أو ننسها } أي نؤخر تنزيله فلا ننزله .
ونقل هذا بعضهم عن سعيد بن المسيب وعطاء أما { ما ننسخ من آية } فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة { أو ننسها } أي نؤخرها فلا يكون وهو ما لم ينزل .
وهذا فيه نظر فإن ابن أبي حاتم روى بالإسناد الثابت عن عطاء { ما ننسخ من آية } أما ما نسخ فهو ما ترك من القرآن ( بالكاف وكأنه تصحف على من ظنه نزل من النزول فإن لفظ ترك فيه إبهام .
ولذلك قال ابن أبي حاتم : يعني ترك لم ينزل على محمد وليس مراد عطاء هذا وإنما مراده أنه ترك مكتوبا متلوا ونسخ حكمه كما تقدم عن غيره وما أنسأه هو ما أخره لم ينزله .
وسعيد وعطاء من أعلم التابعين لا يخفى عليهما هذا .
وقد قرأ ابن عامر { ما ننسخ من آية } وزعم أبو حاتم أنه غلط وليس كما قال بل فسرها بعضهم بهذا المعنى فقال ما ننسخ نجعلكم تنسخونها كما يقال أكتبته هذا .
وقيل : أنسخ جعله منسوخا كما يقال : قبره إذا أراد دفنه وأقبره أي جعل له قبرا .
وطرده إذا نفاه وأطرده إذا جعله طريدا .
وهذا أشبه بقراءة الجمهور .
والصواب قول من فسر أو ننسؤها أي نؤخرها عندنا فلا ننزلها .
والمعنى : أن ما ننسخه من الآيات التي أنزلناها أو نؤخر نزوله من الآيات التي لم ننزلها بعد { نأت بخير منها أو مثلها } فكما أنه يعوضهم من المرفوع يعوضهم من المنتظر الذي لم ينزله بعد إلى أن ينزله فإن الحكمة اقتضت تأخير نزوله فيعوضهم بمثله أو خير منه في ذلك الوقت إلى أن يجيء وقت نزوله فينزله أيضا مع ما تقدم ويكون ما عوضه مثله أو خيرا منه قبل نزوله .
وأما ما أنزله إليهم ولم ينسخه فهذا لا يحتاج إلى بدل ولو كان كل ما لم ينسخه الله يأت بخير منه أو مثله لزم إنزال ما لا نهاية له .
وكذلك إن قدر أن المراد يؤخر نسخه إلى وقت ثم ينسخه فإنه ما دام عندهم لم يحتج إلى بدل يكون مثله أو خيرا منه وإنما البدل لما ليس عندهم مما أنسوه أو أخر نزوله فلم ينزله بعد ولهذا لم يجعل البدل لكل ما لم ينزله بل لما نسأه فأخر نزوله إذ لو كان كل ما لم ينزل يكون له بدل لزم إنزال ما لا نهاية له بل ما كان يعلم أنه سينزله وقد أخر نزوله يكونون فاقديه إلى حين ينزل كما يفقدون ما نزل ثم نسخ فيجعل سبحانه لهذا بدلا ولهذا بدلا .
وأما ما أنزله وأقره عندهم وأخر نسخه إلى وقت فهذا لا يحتاج إلى بدل فإنه نفسه باق .
ولو كان هذا مرادا لكان كل قرآن قد نسخه يجب أن ينزل قبل نسخه ما هو مثله أو خير منه ثم إذا نسخه يأتي بخير منه أو مثله فيكون لكل منسوخ بدلان : بدل قبل نسخه وبدل بعد نسخه .
والبدل الذي قبل نسخه لا ابتداء لنزوله فيجب أن ينزل من أول الأمر فيلزم نزول ذلك كله في أول الوحي وهذا باطل قطعا .
فإن قيل : فهذا يلزم فيما أخره فلم ينزله فإن له بدلا ولا وقت لنزول ذلك البدل قيل : ما أخر نزوله وهو يريد إنزاله معلوم والبدل الذي هو مثله أو خير منه يؤتى به في كل وقت فإن القرآن ما زال ينزل وقد تضمن هذا أن كل ما أخر نزوله فلا بد أن ينزل قبله ما هو مثله أو خير منه وهذا هو الواقع فإن الذي تقدم من القرآن نزوله لم ينسخ كثير منه خير مما تأخر نزوله كالآيات المكية فإن فيها من بيان التوحيد والنبوة والمعاد وأصول الشرائع ما هو أفضل من تفاصيل الشرائع كمسائل الربا والنكاح والطلاق وغير ذلك .
فهذا الذي أخره الله مثل آية الربا فإنها من أواخر ما نزل من القرآن وقد روي أنها آخر ما نزل وكذلك آية الدين والعدة والحيض ونحو ذلك قد أنزل الله قبله ما هو خير منه من الآيات التي فيها من الشرائع ما هو أهم من هذا وفيها من الأصول ما هو أهم من هذا .
ولهذا كانت سورة " الأنعام " أفضل من غيرها وكذلك سورة " يس " ونحوها من السور التي فيها أصول الدين التي اتفق عليها الرسل كلهم صلوات الله عليهم .
ولهذا كانت { قل هو الله أحد } مع قلة حروفها تعدل ثلث القرآن ; لأن فيها التوحيد فعلم أن آيات التوحيد أفضل من غيرها وفاتحة الكتاب نزلت بمكة بلا ريب كما دل عليه قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته } وسورة الحجر مكية بلا ريب وفيها كلام مشركي مكة وحاله معهم فدل ذلك على أن ما كان الله ينسؤه فيؤخر نزوله من القرآن كان ينزل قبله ما هو أفضل منه و { قل يا أيها الكافرون } مكية بلا ريب وهو قول الجمهور .
وقد قيل إنها مدنية وهو غلط ظاهر .
وكذلك قول من قال : الفاتحة لم تنزل إلا بالمدينة غلط بلا ريب .
ولو لم تكن معنا أدلة صحيحة تدلنا على ذلك لكان من قال إنها مكية معه زيادة علم .
وسورة { قل هو الله أحد } أكثرهم على أنها مكية .
وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة ولا منافاة فإن الله أنزلها بمكة أولا ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى .
وهذا مما ذكره طائفة من العلماء وقالوا : إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك .
فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقا .
والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها نزل جبريل فقرأها عليه ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك .
والواحد منا قد يسأل عن مسألة فيذكر له الآية أو الحديث ليبين له دلالة النص على تلك المسألة وهو حافظ لذلك لكن يتلى عليه ذلك النص ليتبين وجه دلالته على المطلوب .
فقد تبين أن البدل لما أخر نزوله بخلاف ما كان عندهم لم ينسخ فإن هذا لا بدل له ولو قدر أنه سينسخ فإنه ما دام محكما لم يكن بدله خيرا منه .
وكذلك البدل عن المنسوخ يكون خيرا منه .
وأكثر السلف أطلقوا لفظ " خير منها " كما في القرآن ولم يستشكل ذلك أحد منهم .
وفي تفسير الوالبي : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم .
وعن قتادة { نأت بخير منها أو مثلها } آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي .
وهذان لم يستشكلا كونها خيرا من الأولى بل بينا وجه الفضيلة كما تقدم من أن الكلام الأمري يتفاضل بحسب المطلوب فإذا كان المطلوب أنفع للمأمور كان طلبه أفضل كما أن رحمة الله التي سبقت غضبه هي أفضل من غضبه .
فما قالاه تقرير للخيرية لا نفي لها .
فإن قيل : فآية الكرسي قد ثبت أنها أعظم آية في كتاب الله وإنما نزلت في سورة البقرة - وهي مدنية بالاتفاق - فقد أخر نزولها ولم ينزل قبلها ما هو خير منها ولا مثلها .
قيل : عن هذا أجوبة : أحدها : أن الله قال : { نأت بخير منها أو مثلها } ولم يقل بآية خير منها بل يأتي بقرآن خير منها أو مثلها .
وآية الكرسي وإن كانت أفضل الآيات فقد يكون مجموع آيات أفضل منها .
والبقرة وإن كانت مدنية بالاتفاق وقد قيل إنها أول ما نزل بالمدينة فلا ريب أن هذا في بعض ما نزل وإلا فتحريم الربا إنما نزل متأخرا .
وقوله : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } من آخر ما نزل .
وقوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق العلماء وقد كانت سورة الحشر قبل ذلك فإنها نزلت في بني النضير باتفاق الناس وقصة بني النضير كانت متقدمة على الحديبية بل على الخندق باتفاق الناس وإنما تأخر عن الخندق أمر بني قريظة فهم الذين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم عقب الخندق وأما بنو النضير فكان أجلاهم قبل ذلك باتفاق العلماء .
وكذلك سورة الحديد مدنية عند الجمهور وقد قيل إنها مكية وهو ضعيف لأن فيها ذكر المنافقين وذكر أهل الكتاب وهذا إنما نزل بالمدينة لكن يمكن أنها نزلت قبل كثير من البقرة .
ففي الجملة نزول أول الحديد وآخر الحشر قبل آية الكرسي ممكن والأنعام ويس وغيرها نزل قبل آية الكرسي بالاتفاق .
الجواب الثاني : أنه تعالى إنما وعد أنه إذا نسخ آية أو نسأها أتى بخير منها أو مثلها لما أنزل هذه الآية قوله { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } فإن هذه الآية جملة شرطية تضمنت وعده أنه لا بد أن يأتي بذلك وهو الصادق الميعاد .
فما نسخه بعد هذه الآية أو أنسأ نزوله مما يريد إنزاله يأت بخير منه أو مثله .
وأما ما نسخه قبل هذه أو أنسأه فلم يكن قد وعد حينئذ أنه يأتي بخير منه أو مثله .
وبهذا أيضا يندفع الجواب عن الفاتحة فإنه لا ريب أنه تأخر نزولها عن سورة { اقرأ باسم ربك } وهي أفضل منها .
فعلم أنه قد يتأخر إنزال الفاضل وأنه ليس كل ما تأخر نزوله نزل قبله مثله أو خير منه .
لكن إذا كان الموعود به بعد الوعد لم يرد هذا السؤال .
يدل على ذلك قوله { ما ننسخ } فإن هذا الفعل المضارع المجزوم إنما يتناول المستقبل وجوازم الفعل " إن " وأخواتها ونواصبه تخلصه للاستقبال .
وقد يجاب بجواب ثالث وهو أن يقال : ما نزل في وقته كان خيرا لهم وإن كان غيره خيرا لهم في وقت آخر وحينئذ فيكون فضل بعضه على بعض على وجهين : لازم كفضل آية الكرسي وفاتحة الكتاب و { قل هو الله أحد } وفضل عارض بحيث تكون هذه أفضل في وقت وهذه أفضل في وقت آخر كما قد يقال في آية التخيير للمقيم بين الصوم والفطر مع الفدية ومع آية إيجاب الصوم عزما .
وهذا كما أن الأفعال المأمور بها كل منها في وقته أفضل فالصلاة إلى القدس قبل النسخ كانت أفضل وبعد النسخ الصلاة إلى الكعبة أفضل .
وعلى ما ذكر فيتوجه الاحتجاج بهذه الآية على أنه لا ينسخ القرآن إلا قرآن كما هو مذهب الشافعي وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد بل هي المنصوصة عنه صريحا أن لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده وعليها عامة أصحابه وذلك لأن الله قد وعد أنه لا بد للمنسوخ من بدل مماثل أو خير ووعد بأن ما أنساه المؤمنين فهو كذلك وأن ما أخره فلم يأت وقت نزوله فهو كذلك وهذا كله يدل على أنه لا يزال عند المؤمن القرآن الذي رفع أو آخر مثله أو خير منه ولو نسخ بالسنة فإن لم يأت قرآن مثله أو خير منه فهو خلاف ما وعد الله .
وإن قيل بل يأتي بعد نسخه بالسنة كان بين نسخه وبين الإتيان بالبدل مدة خالية عن ذلك وهو خلاف مقصود الآية فإن مقصودها أنه لا بد من المرفوع أو مثله أو خير منه .
وأيضا فقوله { نأت } لم يرد به بعد مدة فإن الذي نسأه وهو يريد إنزاله قد علم أنه ينزله بعد مدة فلما أخبر أن ما أخره يأتي بمثله أو خير منه قبل نزوله علم أنه لا يؤخر الأمر بلا بدل فلو جاز أن يبقى مدة بلا بدل لكان ما لم ينزل أحق بأن لا يكون له بدل من المنسوخ فلما كان ذاك قد حصل له بدل قبل وقت نزوله لتكميل الإنعام فلأن يكون البدل لما نسخ من حين نسخ بعد أولى وأحرى ولأنه قد علم أن القرآن نزل شيئا بعد شيء فلو كان ما ينزله بدلا عن المنسوخ يؤخره لم يعرف أنه بدل ولم يتميز البدل من غيره ولم يكن لقوله { نأت بخير منها أو مثلها } فائدة إلا كالفائدة المعلومة لو لم ينسخ شيء .
غاية ما يقال : أنه لو لم ينسخ شيء لجاز أن لا ينزل بعد ذلك شيء وإذا نسخ شيء فلا بد من بدله ولو بعد حين .
وهذا مما يعتقدونه فإنهم قد اعتادوا نزول القرآن عند الحوادث والمسائل والحاجة فما كانوا يظنونه - إذا نسخت آية - أن لا ينزل بعدها شيء فإنها لو لم تنسخ لم يظنوا ذلك فكيف يظنون إذا نسخت ؟ الثاني : أنه إذا كان قد ضمن لهم الإتيان بالبدل عن المنسوخ علم أن مقصوده أنه لا ينقصهم شيء مما أنزله بل لا بد من مثل المرفوع أو خير منه ولو بقوا مدة بلا بدل لنقصوا .
وأيضا فإن هذا وعد معلق بشرط والوعد المعلق بشرط يلزم عقبه فإنه من جنس المعاوضة وذلك مما يلزم فيه أداء العوض على الفور إذا قبض المعوض كما إذا قال : ما ألقيت من متاعك في البحر فعلي بدله وليس هذا وعدا مطلقا كقوله { لتدخلن المسجد الحرام } .
ولهذا يفرق بين قوله : والله لأعطينك مائة وبين قوله : والله لا آخذ منك شيئا إلا أعطيتك بدله فإن هذا واجب على الفور .
ومما يدل على المسألة أن الصحابة والتابعين الذين أخذ عنهم علم الناسخ والمنسوخ إنما يذكرون نسخ القرآن بقرآن لا يذكرون نسخه بلا قرآن بل بسنة وهذه كتب الناسخ والمنسوخ المأخوذة عنهم إنما تتضمن هذا .
وكذلك قول علي رضي الله عنه للقاص : هل تعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن ؟ فلو كان ناسخ القرآن غير القرآن لوجب أن يذكر ذلك أيضا .
وأيضا الذين جوزوا نسخ القرآن بلا قرآن من أهل الكلام والرأي إنما عمدتهم أنه ليس في العقل ما يحيل ذلك وعدم المانع الذي يعلم بالعقل لا يقتضي الجواز الشرعي فإن الشرع قد يعلم بخبره ما لا علم للعقل به وقد يعلم من حكمة الشارع التي علمت بالشرع ما لا يعلم بمجرد العقل .
ولهذا كان الذين جوزوا ذلك عقلا مختلفين في وقوعه شرعا وإذا كان كذلك فهذا الخبر الذي في الآية دليل على امتناعها شرعا .
وأيضا فإن الناسخ مهيمن على المنسوخ قاض عليه مقدم عليه فينبغي أن يكون مثله أو خيرا منه كما أخبر بذلك القرآن ولهذا لما كان القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتاب بتصديق ما فيه من حق وإقرار ما أقره ونسخ ما نسخه كان أفضل منه .
فلو كانت السنة ناسخة للكتاب لزم أن تكون مثله أو أفضل منه .
وأيضا فلا يعرف في شيء من آيات القرآن أنه نسخه إلا قرآن .
والوصية للوالدين والأقربين منسوخة بآية المواريث كما اتفق على ذلك السلف قال تعالى : { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } .
والفرائض المقدرة من حدوده ولهذا ذكر ذلك عقب ذكر الفرائض فمن أعطى صاحب الفرائض أكثر من فرضه فقد تعدى حدود الله بأن نقص هذا حقه وزاد هذا على حقه فدل القرآن على تحريم ذلك وهو الناسخ .
فصل والناس في هذا المقام - وهو مقام حكمة الأمر والنهي - على ثلاثة أصناف : فالمعتزلة القدرية يقولون : إن ما أمر به ونهى عنه كان حسنا وقبيحا قبل الأمر والنهي والأمر والنهي كاشف عن صفته التي كان عليها لا يكسبه حسنا ولا قبحا ولا يجوز عندهم أن يأمر وينهى لحكمة تنشأ من الأمر نفسه .
ولهذا أنكروا جواز النسخ قبل التمكن من فعل العبادة كما في قصة الذبيح ونسخ الخمسين صلاة التي أمر بها ليلة المعراج إلى خمس ووافقهم على منع النسخ قبل وقت العبادة طائفة من أهل السنة المثبتين للقدر لظنهم أنه لا بد من حكمة تكون في المأمور به والمنهي عنه : فلا يجوز أن ينهى عن نفس ما أمر به .
وهذا قياس من يقول إن النسخ تخصيص في الأزمان فإن التخصيص لا يكون برفع جميع مدلول اللفظ لكنهم تناقضوا والجهمية الجبرية يقولون : ليس للأمر حكمة تنشأ لا من نفس الأمر ولا من نفس المأمور به ولا يخلق الله شيئا لحكمة ولكن نفس المشيئة أوجبت وقوع ما وقع وتخصيص أحد المتماثلين بلا مخصص وليست الحسنات سببا للثواب ولا السيئات سببا للعقاب ولا لواحد منهما صفة صار بها حسنة وسيئة بل لا معنى للحسنة إلا مجرد تعلق الأمر بها ولا معنى للسيئة إلا مجرد تعلق النهي بها فيجوز أن يأمر بكل أمر حتى الكفر والفسوق والعصيان ويجوز أن ينهي عن كل أمر حتى عن التوحيد والصدق والعدل وهو لو فعل لكان كما لو أمر بالتوحيد والصدق والعدل ونهى عن الشرك والكذب والظلم .
هكذا يقول بعضهم وبعضهم يقول : يجوز الأمر بكل ما لا ينافي معرفة الأمر .
بخلاف ما ينافي معرفته .
وليس في الوجود عندهم سبب ولكن إذا اقترن أحد الشيئين بالآخر خلقا أو شرعا صار علامة عليه فالأعمال مجرد علامات محضة لا أسباب مقتضية .
وقالوا : أمر من لم يؤمن بالإيمان معناه إني أريد أن أعذبكم وعدم إيمانكم علامة على العذاب .
وكذلك أمره بالإيمان من علم أنه يؤمن معناه إني أريد أن أثيبك والإيمان علامة .
وهؤلاء منهم من ينفي القياس في الشرع والتعليل للأحكام ومن أثبت القياس منهم لم يجعل العلل إلا مجرد علامات .
ثم إنه مع هذا قد علم أن الحكم في الأصل ثابت بالنص والإجماع وذلك دليل عليه فأي حاجة إلى العلة ؟وكيف يتصور أن تكون العلة علامة على الحكم في الأصل وإنما تطلب علته بعد أن يعلم ثبوت الجحيم وحينئذ فلا فائدة في العلامة .
وأما الفرع فلا يكون علة له حتى يكون علة للأصل وهؤلاء منهم من ينكر العلل المناسبة ويقول : المناسبة ليست طريقا لمعرفة العلل وهم أكثر أصحاب هذا القول .
ومن قال بالمناسبة من متأخريهم يقول إنه قد اعتبر في الشرع اعتبار المناسب فيستدل بمجرد الاقتران لا لأن الشارع حكم بما حكم به لتحصيل المصلحة المطلوبة بالحكم ولا لدفع مفسدة أصلا فإن عندهم أنه ليس في خلقه ولا أمره لام كي .
فجهم - رأس الجبرية - وأتباعه في طرف والقدرية في الطرف الآخر .
وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة الإسلام كالفقهاء المشهورين وغيرهم ومن سلك سبيلهم من أهل الفقه والحديث والمتكلمين في أصول الدين وأصول الفقه فيقرون بالقدر ويقرون بالشرع ويقرون بالحكمة لله في خلقه وأمره - لكن قد يعرف أحدهم الحكمة وقد لا يعرفها - ويقرون بما جعله من الأسباب وما في خلقه وأمره من المصالح التي جعلها رحمة بعباده مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه : أفعال العباد وغير أفعال العباد .
وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأن كل ما وقع من خلقه وأمره فعدل وحكمة سواء عرف العبد وجه ذلك أو لم يعرفه .
والحكمة الناشئة من الأمر ثلاثة أنواع : أحدها : أن تكون في نفس الفعل - وإن لم يؤمر به - كما في الصدق والعدل ونحوهما من المصالح الحاصلة لمن فعل ذلك وإن لم يؤمر به والله يأمر بالصلاح وينهى عن الفساد .
والنوع الثاني : أن ما أمر به ونهى عنه صار متصفا بحسن اكتسبه من الأمر وقبح اكتسبه من النهي كالخمر التي كانت لم تحرم ثم حرمت فصارت خبيثة والصلاة إلى الصخرة التي كانت حسنة فلما نهى عنها صارت قبيحة .
فإن ما أمر به يحبه ويرضاه وما نهى عنه يبغضه ويسخطه .
وهو إذا أحب عبدا ووالاه أعطاه من الصفات الحسنة ما يمتاز بها على من أبغضه وعاداه .
وكذلك المكان والزمان الذي يحبه ويعظمه - كالكعبة وشهر رمضان - يخصه بصفات يميزه بها على ما سواه بحيث يحصل في ذلك الزمان والمكان من رحمته وإحسانه ونعمته ما لا يحصل في غيره .
فإن قيل : الخمر قبل التحريم وبعده سواء فتخصيصها بالخبث بعد التحريم ترجيح بلا مرجح ؟ .
قيل : ليس كذلك بل إنما حرمها في الوقت الذي كانت الحكمة تقتضي تحريمها .
وليس معنى كون الشيء حسنا وسيئا مثل كونه أسود وأبيض بل هو من جنس كونه نافعا وضارا وملائما ومنافرا وصديقا وعدوا ونحو هذا من الصفات القائمة بالموصوف التي تتغير بتغير الأحوال : فقد يكون الشيء نافعا في وقت ضارا في وقت والشيء الضار قد يترك تحريمه إذا كانت مفسدة التحريم أرجح كما لو حرمت الخمر في أول الإسلام ; فإن النفوس كانت قد اعتادتها عادة شديدة ولم يكن حصل عندهم من قوة الإيمان ما يقبلون ذلك التحريم ولا كان إيمانهم ودينهم تاما حتى لم يبق فيه نقص إلا ما يحصل بشرب الخمر من صدها عن ذكر الله وعن الصلاة فلهذا وقع التدريج في تحريمها .
فأنزل الله أولا فيها : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } ثم أنزل فيها - لما شربها طائفة وصلوا فغلط الإمام في القراءة - آية النهي عن الصلاة سكارى : ثم أنزل الله آية التحريم : والنوع الثالث : أن تكون الحكمة ناشئة من نفس الأمر وليس في الفعل ألبتة مصلحة لكن المقصود ابتلاء العبد هل يطيع أو يعصي فإذا اعتقد الوجوب وعزم على الفعل حصل المقصود بالأمر فينسخ حينئذ كما جرى للخليل في قصة الذبح : فإنه لم يكن الذبح مصلحة ولا كان هو مطلوب الرب في نفس الأمر بل كان مراد الرب ابتلاء إبراهيم ليقدم طاعة ربه ومحبته على محبة الولد ولا يبقى في قلبه التفات إلى غير الله فإنه كان يحب الولد محبة شديدة وكان قد سأل الله أن يهبه إياه - وهو خليل الله - فأراد تعالى تكميل خلته لله بأن لا يبقى في قلبه ما يزاحم به محبة ربه : { فلما أسلما وتله للجبين } { وناديناه أن يا إبراهيم } { قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين } { إن هذا لهو البلاء المبين } ومثل هذا الحديث الذي في صحيح البخاري : حديث أبرص وأقرع وأعمى كان المقصود ابتلاءهم لا نفس الفعل .
وهذا الوجه والذي قبله مما خفي على المعتزلة فلم يعرفوا وجه الحكمة الناشئة من الأمر ولا من المأمور لتعلق الأمر به بل لم يعرفوا إلا الأول .
والذين أنكروا الحكمة عندهم الجميع سواء لا يعتبرون حكمة ولا تخصيص فعل بأمر ولا غير ذلك كما قد عرف من أصلهم .
ثم إن كثيرا من هؤلاء وهؤلاء يتكلمون في تفسير القرآن والحديث والفقه فيبنون على تلك الأصول التي لهم ولا يعرف حقائق أقوالهم إلا من عرف مأخذهم فقول القائل : إن ( { قل هو الله أحد } وفاتحة الكتاب قد تكون كل واحدة منهما في نفسها مماثلة لسائر السور وآية الكرسي مماثلة لسائر الآيات وإنما خصت بكثرة ثواب قارئها أو لم تتعين الفاتحة في الصلاة ونحو ذلك إلا لمحض المشيئة من غير أن يكون فيها صفة تقتضي التخصيص هو مبني على أصول جهم في الخلق والأمر وإن كان وافقه عليه أبو الحسن وغيره .
وكتب السنة المعروفة التي فيها آثار السلف يذكر فيها هذا وهذا ويجعل هذا القول قول الجبرية المتبعين لجهم في أقوال القدرية الجبرية المبتدعة والسلف كانوا ينكرون قول الجبرية الجهمية كما ينكرون قول المعتزلة القدرية وهذا معروف عن سفيان الثوري والأوزاعي والزبيدي وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم وقد ذكر ذلك غير واحد من أتباع الأئمة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وسائر أهل السنة في كتبهم كما قد بسط في مواضعه وذكرت أقوال السلف والأئمة في ذلك .
وإنما نبهنا هنا على الأصل لأن كثيرا من الناس لا يعرف ذلك ولا يظن قول أهل السنة في القدر إلا القول الذي هو عند أهل السنة قول جهم وأتباعه المجبرة أو ما يشبه ذلك .
كما أن منهم من يظن أن قول أهل السنة في مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد هو أيضا القول المعروف عند أهل السنة بقول جهم .
وهذا يعرفه من يعرف أقوال الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام المشهورين في هذه الأصول .
وذلك موجود في الكتب المصنفة التي فيها أقوال جمهور الأئمة التي يذكر فيها أقوالهم في الفقه كثيرا والعلماء الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة على مذهب السلف في ذلك وكثير من الكتب المصنفة التي يذكر فيها أقوال السلف على وجه الاتباع من تصنيف أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم يذكرون ذلك فيها .
وينبغي للعاقل أن يعرف أن مثل هذه المسائل العظيمة التي هي من أعظم مسائل الدين لم يكن السلف جاهلين بها ولا معرضين عنها .
بل من لم يعرف ما قالوه فهو الجاهل بالحق فيها وبأقوال السلف وبما دل عليه الكتاب والسنة والصواب في جميع مسائل النزاع ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقولهم هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والعقل الصريح .
وقد بسط هذا في مواضع كثيرة .
والله سبحانه أعلم
جزى الله الشيخ الامام على هذا المنهل العذب الفرات وجعله الله فى ميزان حسناته
الشيخ / اشرف

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alrabany.forumegypt.net
 
افضليىة بعض القرأن ج12
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» افضليىة بعض القرأن ج8
» افضليىة بعض القرأن ج9
» افضليىة بعض القرأن ج10
» افضليىة بعض القرأن ج11
» افضليىة بعض القرأن ج7

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الطريق الربانى لطالب العلم الروحانى :: الطريق الربانى لطالب العلم الروحانى :: روحانية القران العظيم-
انتقل الى: